قلة الاحلام هي ما تتصف به الليالي التي تتخللها ساعات نومي. وعندما يُأتى بحلم ما الى ذهني فيكون ذلك حدثًا أذكره بدقة! هكذا جرت العادة.
ليلة أمس، كان حلمي يُحاك على مقام النهاوند. مَرَّ الحلم وكأني أستعرض كلّ نغمة تعلمتها على هذا المقام الموسيقي الذي جمع أغلب ذكرياتي القريبة منها والبعيدة. بدأ الحلم وانا استمع إلى صوتِ السيدة أسمهان وهي تجول في ليالي الأنس في ڤينا، ومن ثم انتقل إلى العراق، وتحديدًا عند صوت الست أنوار عبد الوهاب وهي تنهال علينا بجمال "عِد وانا اعِد"، ليستقر في نهاية المطاف عند الست فيروز التي تكتب اسم حبيبها "على الحَور القديم"…
قضيت ليلة أمس واقفًا في زاوية روحي، أتأمل المشهد عن بعد!
وجدت الغياب! هو العنصر المهيمن الطاغي في هذه الروح!
قد يتعلم المرء من تجاربه ومجريات حياته، لكنني لم أرَ مُعلّمًا ��اهرًا كالغياب. ذلك البُعد عَمّا تُحِب الروح وتشتهي هو من هَذّبها، هو الذي جعلها تُنصِف الناس والأماكن التي غابت عنهم. قد يبدو ذلك ايجابيًا، فالروح اكتسبت معرفة قَيّمة. لكن مشكلته الوحيدة هي التوقيت… جاء متأخرًا.
أرى أن على الانسان ان يبقى يقظًا، أن يحذر من الاعتياد على الناس والأماكن والأشياء من حوله، فقد يجعله ذلك يفقد التقدير الذي يستحقوه.
في استثناء نادر الحدوث… لا تسعى للتعلم في هذه الحالة، لا تجعل الغياب يُعلمك! لا تنتظر الغياب لتعطي كل ذي حقٍ حقه.
عذرًا عزيزي القارئ، لم أقصد وضع نفسي في مكان المُعلم الناصح لك، لكنّها مشاركة للأفكار.
أنا -يا رعاك الله- ممن شاءت الأقدار ليكونوا في غير وطنهم الأم. كثيرون هم العراقيون في العراق وخارجه، ولا شك في انتمائهم لبغداد أو لأي مدينة أخرى في العراق.
أما أنا، فقد كنت مميزًا في محيطاتي الجديدة خارج العراق. فأنا من بغداد، وهي ميزتي الأولى.
أنا منها، أنا من حاضرها وماضيها، أنا مَن ولدتني أُمي على بعد 600 متر عن دجلتها.
أنا ذلك العراقي الذي ينتمي لوطنه دونما استثناء، فلا يعتمد ذلك على زمن ما ولا على شخص بعينه! فهو الحالة المُثلى وأنا المُحاولة.
ذات ليلة بغدادية، وقفت الى جانب هذه النخلة -فارعة الطول- وفي داخلي الكثير لأخبرها اياه! كيف لا؟ فهي عنواني عندما اغترب ومقصدي حين ارتحل.
اقتربتُ منها، لكنها لم تُعِرني إهتمامًا كبيرًا، أظنّ انها ارتبكت بعض الشيء لأن الهواء كان يبعثر رتابة سعفاتها.
كان الموقف محرجًا بعض الشيء، فأنا اعرفها جيدًا، لكنها لم تكن تعرفني، لذا لم أستطع اخبارها بشوقي ولهفتي لِلُقياها! فقررت حينها أن أُبادر وأصنع فرصة لبدء حديث عابر معها.
أنا: "هل تعرفين ناظم الغزالي؟"
هي: "اعرفه، نعم. اقف في بغداد منذ زمن طويل، واغلب العراقيون يحبون هذا الرجل وكثيرًا ما يستمعون إليه، يمتلك صوتًا مميزًا"
أنا: "نعم، هو كذلك"
أنا: "أتعلمين؟ في إحدى أغنياته كان يستعين بكِ لوصف جمال حبيبته!"
هي: "حقًا؟ أي أغنية هذه؟ كيف عرفت ذلك؟ هل تسخر مني؟"
أنا: " لا.. لا.. لم أقصد السخرية إطلاقًا! هو يقول: فوگ النخل.. فوك.. مَدري لمع خده مَدري الگُمر فوك."
أنا: " لذا فهو يحاول وصف حبيبته من خلالك. وهذا شيء جميل، أليس كذلك؟"
هي: "وما أدراك بقصده؟ هو يقول -النخل- وانا واحدة من آلاف النخيل في العراق!"
أنا: "أنا أُخمن ذلك، فأنتِ طويلة جدًا، والأكثر قربًا إلى القمر الذي يُحاول تشبيه حبيبته به!"
هي: "رُبما!"
بعد انتهاء حديثنا، الذي لم أرغب إنهاءه، أكملت المسير وأنا أُدندن باقي الأغنية : "والله باليني.. بعيونه الحلوة..".
كثيرًا ما أشعر ان الحياة عبارة عن مشاهد سينمائية تكونها المواقف والاماكن والشخصيات التي تتواجد في يومياتنا!
في كل مرة اتجول فيها في بغداد، أشعر كأني أراها للمرة الأولى، كما قالتها الست فيروز، "انا كلما بشوفك، كأني بشوفك لأول مرة، حبيبي..!"
فإن لوقت النداء الى الصلاة يوم الجمعة في بغداد مشهدا يجعلني أعيش روايةً جُسِّدت في فيلم سينمائي أُتقِنَ ليس فقط اخراجه، وإنما أبدع مهندس الصوت الذي خلط فيه ما بين صوت الاذان وصوت مياه دجلة والنوارس من فوقها وبغداد وهي تعج بأصوات من فيها!
كأن لشوارع بغداد القديمة اصوات خاصة كصوت دوران المعالق داخل إستكانة الشاي العراقي -المهّيل- وصوت تراحيب كهول المنطقة ببعضهم البعض من على طاولات المقاهي -الله بالخير حجي.. الله بالخير عيوني.. الله بالخير اغاتي- وصوت الباعة المتجولين وغيرهم، تصبح فجأة بمثابة مؤثراتٍ صوتية تجعل مرورك فيها أشبه بفلم سينمائي غيّر مجرى حياتك بعد مشاهدتك الأولى له.
هذه مشاهدتي لبغداد الى جانب دجلة وجسر الشهداء وروحي التي تسكنها.
كنت استمع الى مظفر النواب وهو يقول "مو حزن، لكن حرين". عرفتُ هذه القصيدة واستمعت لها عشرات المرات، لكن هذه المرة شعرت بأنه يتحدث بلساني… لا يوجد ما يحزنني، لكني حزين!
قد يُخيّل للبعض ان ما احزن عليه (ترفًا!) فأنا احزن على تلك المُدن التي عشت فيها ومن ثمن عاشت فيَّ، أحزن على غربتي..!
أعيش في بعدٍ منذ ١٧ عامًا، لكنّي افتقد ذلك (الترف) في العيش في بلادٍ تنتمي روحي لها. لا بغداد لي ولا دمشق لي…
وان الوطن، قبل ان يكون وطن، هو الفكرة والحقيقة المطلقة التي لابد ان تراودنا جميعا. وان الافكار، بحكم طبيعتها الفيزيائية، تتجرد من منطق الموت، لذا لن يموت الوطن! انتهى
مع إنّي لا أميل إلى مشاركة الأفكار السلبية، حيث إن لا ذنب لمن هم بحالة السعادة والفرح أن يقرأوني وأنا أبوح بذلك الحزن، لكنّي أيقنتُ ان لا يمكن للمرء الهرب من الحزن!
وأدركت أنّي لا أكتب ولا أعزف الموسيقى بشغف الا في حالة الحزن هذه!
ويبدو إن نزار قباني صَدَق عندما وصف "أن الأنسان بلا حُزنٍ ذكرى إنسان"