جرت العادة أن اكتب صباحا ولكـن ليس كل ما نشتهيه باليد، فمنذ سنة و أكثر لا أذكر علي وجه التحديد بدأت اكتب ليلاً ولو خُيرت بين أن أصبح كائن صباحي أو كائن ليلي، لأخترت أن أكون عصفورةَ صباح، لا وطواط ليلٍ.
فبدلا من أن اكتب ماذا لو يُسفر الصبح علي وجهك؟ أقول ماذا لو يسدل الليل ستائره وأنت هنا بجانبي عند تلك النافذة، نقف و نجري في دروب من الأحاديث ونثير نقاشا حادًا ينتهي بفوزي وقُبلة منك؟
يقول تولستوي:- الطرقات مضاءة بشكل جيد لكن الجميع تائه.
تالله إنها لحقيقة.
” كيف حالك؟“ سؤال اعتباطي جدا وإجابته دينية بحتة، إن محـاولاتنا في الفكاك من بعض الأماكن تؤذينا، لأنها الوجهه التي يجب أن نشعر فيها بالأمان، ف مـاذا لو أصبح البيت غير آمن؟ إلي أين نيمم مقاصدنا؟..
تـريد هذه الوجهة وعكس هذه الوجهة. تـريد الحـرية وتختار القفص بكـامل قواك العقلية. تريد الفرار حيث البـراري والطبيعة، وتخـتار المدينة بصخبها وبهرجتها، تمقت الحضر فيها وقيوده، تكره طاحونة العمل التي لا تتوقف، و ضجيج المدينة الذي لا ينام، وصخب الجهل الذي يعم المكان، تشمئز من المادية البحتة التي باتت تطغي علي كل شئ. فلا أنت قادر علي البقاء ولا علي الرحيل.. لماذا نرحل ولماذا نمكث؟ لماذا نضحك ولماذا نبكي؟ كل هذا التناقض وتسألني كيف حالك ؟
هل جربت أن تشاهد الآخرين وهم يحققون أحلامك التي رغبت فيها دائماً، هل تعرف شعور أن تحقق أمور لم تكن مدرجة يومًا في قائمة أحلامك ذات يوم؟ إن بعض الاحلام تلفظك و تستقبل شخصا آخر بحفاوة. تعصر قلبك ندماً.
حسنا! ماذا عن الندم؟ ستجد الندم في كل زاوية يتربص بك، سيجلس أمامك علي مائدة العشاء في بيتك، يضع مناديل الطعام علي قدمه ليشرع بالاكل معك، كل شئ حولك يفكرك بالندم حتي الوجبة التي ستتناولها معجونة بالندم..
الأمر الذي كلفني عمرا فوق عمري ورسم التجاعيد علي وجهي وأشعل الشعر الابيض في رأسي إن الأمور لن تسير كما خططت لها، ستحاول وتعافر وتحارب ثم لن يكون إلا ما كتب الله لك، فمحاولاتك في استعادة الذكـريات والروائـح و الأشـخاص والأماكن ضرباً من الجنون.
فإن أعادوا لنا الاماكن، فمن يعيد لنا الرفاق وإن أعادوا الرفاق من يعيد لنا نفس الروح و الفرحة التي كانت آنذاك؟
في النهاية ستجد الندم يتمدد علي الكنبة مباشرة منك ويحتسي معك شاي الندم وقد يتناول معك قطعة الشيكولا دون أي يخجل منك، هذا ما يحدث أيضا عندما نتخذ قرارات مصيرية فقط لإرضاء من حولنا.
كيف حالك؟
نحن تائهيون في ضجيج المدينة وزحـمتها لولا وجود الأحبة بجانبنا..
يقول إبراهيم السكران:-” حين يكون الإنسان في فلاةٍ من الأرض، وتناديه عشرات الأصوات تتناهشه من كل جهة؛ فإنه لا يزداد إلا تيهاً وذهولاً.“
يعم الهدوء أرجاء غرفتك، عقارب الساعة تشير إلي السادسة صباحاً، نحن من نادي السادسة صباحاً. أرمق شاشة الهاتف بملل يعقبه تصفح سريع. أي فائدة ترجو من الحياة ونحن نعيش علي الخط السريع منها؟ ننتظر شيئاً ليحدث ولا شئ يحدث؛ نفس المشاهد والأحادث المعادة والأيام المكررة.
نستيقظ كل يوم علي أمل أن نحيا يوما مختلفاً. مؤخرا، أصبحت أميل أن أعيش اللحظة وانغمس بها، بعيدا عن توثيقها. لا أعرف إن كان هذا شكلا من اشكال النضج أم أن التكنولوجيا أصبحت مفلسة ولا تروي ظمأ الروح؛ أصبحت اتلذذ بنسمات الصباح المنعشة وكأنني ولدت من رحم الصباح لا من رحم أمي، أغمض عيني و ابتهل إلي الله بصدق، وعلي قدر المستطاع ارتشف قهوتي علي مهل، ولا أحاول أن استرق النظر إلي الهاتف.. بهذا الرتم يصبح للحياة معني. حيث كل شئ يأخذ مجراه الطبيعي، فالجواد السريع الذي لا يستريح لا يفوز في السباق وهذا ما أدركته مؤخرا..
الأيام ثقيلة و الرغبات تتلاشي والارواح فارغة و الإلهام عندما يشح، يُدمي العقل. كل ما علينا فعله أن نرفع روؤسنا ونلقي نظرة علي الأشياء من حولنا، أن ننعزل بعيداً عن ضوضاء العالم ونعطل هواتفنا حيث نبطئ إيقاع الحياة ونخلو مع أنفسنا وأفكارنا ونعيد ترتيب المشهد.
ماذا لو كبحنا الفرامل قليلًا و استمتعنا بكل ما هو بطئ؛ نعد وجبة طعام علي مهل، نقرأ ببطئ، نتحدث ببطئ، أن نحلم بمدن تنام و تستيقظ علي وتيرة هادئة؟!
وعلي قيد الأمل ترقبنا أن تلقي الرياح بمعطف الدفئ لنغفوا به مطمئنين في عالم متخم بالقلق و الجشع في إلتهام المزيد دون شبع.