"أنا مدين بكامل اللطف والحب لكل من جعلني أبصر شيئًا جميلًا في نفسي حين أوشكت على الإنطفاء، أنا مدين بكامل الحب لكل من رأى حزني ولم يتجاوزه أو حاول معرفته ولم يتركني بمفردي، أنا مدين بالحب لكل من وضعني في أولوياته برغم تقصيري معه، أنا مدين بالحب لكل من تقبّلني كما أنا ولم يكف عن الدفاع عني برغم مساوئي الكثيرة، أنا مدين بالحب لكل من دخل حياتي ولم يفسدها كغيره، أنا مدين بالحب لكل من كان لينًا بحديثه أو بفعله معي ولم يحطمني بسوء كلماته، أنا مدين بالحب لكل من بحث عني في أيام العزلة النفسية ولم يتركني للآلام وقسوتها وحدي، أنا مدين بكامل اللطف والحب لكل من استطعت الوثوق به ولم يخذلني يومًا ما."
أنتمي لجيلٍ يدفع ثمن رهانات أسلافه الخاسرة، ولد مخنوقًا تحت أنقاض قضايا لم يشارك في بنائها، يعيش ملخصًا سريعًا لأحداث كانت تستغرق عقودًا في زمن مضى، يرافقه صداع مستمر بسبب المنعطفات الدائمة، حتى النور الذي في آخر النفق يخشى أن يكون أمامة قطار قادم لسحقه.
أتذكر بأني في نهاية ذلك اليوم -الأخير من شهر أكتوبر- قررت أن اتوجه لفراشي. لقد كان يوما مرهق و مؤرق يملوءه شعور كئيب. أكتوبر البائس هذا شعرت وكأنه يكرهني. لا أعلم إن كان يكرهني فعلا وما دافع تلك الكراهية. لكنه على أية حال لا يحبني. هل يحب الزمن إنسانا ويمقت آخر؟ لم يرد ببالي سؤال مثل هذا من قبل. على العموم عما قريب سينتهي الشهر. كلها بضع سويعات فقط لا غير. لكني لم أنم بعد.. مستلقية على السرير أحدق في السقف. خُيِّل لي بأنه سينهار عليَّ ويدفنني بغباره. أحارب بعض الأفكار منها تلك الفكرة. ولكني دون إرادة مني وجدتني أفكر في ما آلت إليه الأمور بيننا. قد كنت اتشبث بكل ما أوتيت من الضعفِ بخيطٍ رفيعٍ هشٍ من الأمل.. لكنه تلاشى من بين يدي الضعيفتين. أذكر بأني بكيت بحرقة ولم أعلم لماذا!
أردت للحظات فقط أن أغفو قليلا هربا من كابوس الحياة لأعيش واقع حلم لكن شيء ما أيقظني.
ولم استطع النوم أبداً.. أتذكر أني قلت لنفسي حينها "فقط اغمضي عيناكِ ". بعدها انسدلت جفوني المثقلة بالأحلام لينزل ستار أسود غشى على بصري. وُضعتُ في مكان مظلم. خلف قضبان حديدية سميكة انحصرت في عقلي.. لا أعلم ما حدث بعدها. يبدو أني غفوت!
استيقظت صباح يوم التالي . أنه الأول من نوفمبر. وأنا متعبة قليلاً.. ذابلة العينين شاحبة الوجه. لملمت خصلات شعري المبعثرة على جبيني. راودني حلم غريب. حلم ما قبل الإفاقة.. أشياء ضبابية متداخلة متشابكة ببعضها البعض لم استطع فهمها. ضممت ركبتي إلى صدري وكأني أتكوم على ذات وأنفصل عن العالم وأدخل عالم خاص بي بداخلي. انسابت ذكريات إلى وعي تدريجياً. ليس حنيناً لها بل كآبة منها.
بتكاسل وتراخي فتحت حاسوبي. أملا وخوفا تفقدت صندوق بريدي وجدتـــه بــــــارد خالٍ من أي رسائل لتتحقق مخاوفي: لقد نسيني
إنَّ علاقَتي مَعْ الشِّتَاء تُشبِهُ معضَلَةِ العِلاقاتِ المُعقَّدة، أو ظَاهِرَة سْتُوكهولم، ومَعَاذَ الله أنْ أقَعَ في علاقَةٍ مُعقَّدة. إنَّني شديدُ التَّعلقِ بهِ على الرُغمَ ما يَجْلِبُه وما يَحدُثُ في زَمَنه.
قَدِمْتُ للحيَاةِ في أكثَرِ الأشْهُرِ بُرودَةً. أحبَبتُ الشِّتَاءِ بخِلافِ طبيعةِ الحَيَاةِ كُلَّها، وأتوقُ لِقُدومِهِ سَنويًا بالأيَّامَ والأشْهُرِ، وأتهَلَّلُ بِمَجيئه. قبْلَ كلَّ شيءَ موسمَ الشِّتَاءَ، بالتَّحديدِ الأشْهُرَ القَارِسَةِ بغضِّ النظَرِ عنِ الرُّومانسيَّاتِ الأدبيَّةِ، هو موسمُ المَرَضِ والجُوعِ والارْتِجَافِ والحُزنُ الطَويل والخُمولِ، ثمَّ إنَّ عبارةِ "المَصَائبَ لا تأتيَ فَرادَى" لا يَتحقَّقُ في حَيِّزي إلا في موسِمِ الشِّتَاءِ، لقدْ زُرتُ القاعَ، وذُقتُ النَّبذِ، ولُعِنتُ بِبِضْعِ اللَّعناتِ الدُّنيويِّةِ في الشِّتاء حصْرًا، ولكنْ على الأقَلِّ فإنَّ أوَّلُ تجربةٍ ليَ لموسمِ الشِّتاء كانَتْ عظيمةً لا تُنْسَى، تُسَاويَ جميعَ ذكرياتَيَ الحَسَنة، والشِتَاءانِ المَاضيَة كَانَتا أكثَر تلَطُّفًا.
مع ذَلكِ فَقَدْ تقبَّلتُ مُجريَاتِه كلُّها عنْ صَدرٍ رَحِب، ويَزْدَادَ مَحبَّتي لهُ عامًا تلوَ عام، وليسَ ثمَّةَ ما يُشعرُني في هذا المَوسمَ بالتجَلِّيَ إلا عندَ تلامُسِ البَرْدَ وَجْنَتيَّ في مُنتَصَفِ الليَّل وفي السَّاعاتِ الأولى منَ الصَبيحَةِ، الارْتِجَافَ الطَفيفَ يَمنحُ لي السَّكينةِ حتَّى مع تكدُّسِ الرِّداءاتُ حولَ جَسَدَي، لا أحبِّذَ مُجاورَةِ المِدفَئةِ كثيرًا، أفضِّلُ أن يَتعرَّض جَسَدِيَ لنِفحَاتِ البَرْدِ، وتسَللِّ أطيَافِه بينَ أطرَافَ أصابِعي وثمَّ يَشتمِل كِلْتَا يَدَيَّ، رغمَ أنَّ جسَدَيَ ليسَ حِصنًا مَنيعًا للبَردِ، وأعانِيَ كما يُعاني أيُّ إنسانٍ آخر، إنَّ الأمْرُ غريب أليسَ كَذلك؟ ولكنْ رُبما قدْ أغيَّرَ رأيَّي لو تَذوَّقتُ شِتَاءَ يَاكُوتْسك.
كلَّ شِتَاءٍ والجمَيعَ في مَأمنٍ رُوحي ... على الأقَل.
مرة سمعت جملة وفضلت معلّقة في بالي، بتقول:
"الراضي ربنا بيراضيه فى أي حتة، واللي مش راضي دنيته ضيقة عليه فى كل حتة" الكلام دا حقيقي لأقصى درجة بجد، مفيش مرة هترضى فيها بوضع صعب أو ابتلاء تقيل إلا وهتلاقي ربنا مقدّرك تستحمله وبيراضي قلبك في جوانب تانية في حياتك.