أحدق في الظلام بعد موجة سعال حرمتني النوم و أفكر لو أنني أستطيع لأخبرتك أني منذ مدة عقدت هدنة بيني و بين الليل. ما عدنا نسهر معا. هذه الهدنة متذبذبة و العلاقة بيننا شائكة. مرات تتوقف الهدنة نتيجة لشوق لا مجال لمقاومته .. ما استنتجته أن الليل يشبهك.. بيننا سوء تفاهم ومسافة طويلة رغم التقارب الروحي. هو عدوي و صديقي مثلك. أحبه و أكرهه و أخاف فقدانه. مرة أردت أن أخبرك سرا . أني أشعر معك بالآمان. لماذا ظننته سرا و خبئته إذا؟ .و أنا في الليل أشعر بالآمان أيضا. بالمناسبة، هذا الشعور يتضائل كلما طال الزمن الذي يبعدك عني. و لهذا السبب تحديدا أظن أن الهدنة انتهت ! ”
منذ بدء الخليقة والإنسان يسعى دائمة للمعرفة بكل ما أوتي من وسائل . الجهل كان عدو الإنسان الأول، وإليه تُعزى أغلب كوارث الأرض وخسائر البشرية الكبرى وأيضا- إلى حد ما- الخطيئة الأولى.
فحين يخرج شيء إلى النور بعد أن كان يُطبخ طويلاً وبجهد في الخفاء عن كثيرٌ من الناس، فهذا أمرٌ محمود، يعني أنه صار جزء من معرفة الإنسان، فيسقط الغَبش ولا يبقى للإنخداع والرمادية مكاناً. المكشوف أفضل بكثير من المخفي، أي مكان بين الجهل والحقيقة لا يُعول عليه ولا ينتمي إليه الشرفاء، وكل من يسقط من الغربال ماهو إلى ل (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). وبالتأكيد عاقبة كل ذلك حميدة، ويعني حتماً أن نهاية الظلام أوشكت.
فلسطين ستبقى قضية كل إنسان شريف لا لَبَس فيها؛ بصرف النظر عن انتمائاته أو عقائده، وكل ثورة على الظلم وعلى أي ظالم، في أي بقعة على الأرض، خارجة من نفس المشكاة، لا مكيالين فيها.
أنا لا أفهم كيف يستطيع أي أحد أن يرى الحزن في أي كائن حي أمامه ولا يفعل شيئاً. ولا يربت على كتفه، ولا يصبّره، ولا يهدي قلبه كلمة تسكن أنينه، ولا يحاول إضحاكه، ولا حتى أن يجلس معه في صمت ويمسك بيده على الأقل؟!
"أحياناً عزائك الوحيد في هذا العالم هو أنك سوف تفنى. عاجلاً أم آجلاً ستفنى، بأي طريقة ستنتهي من هذا الوجود الثقيل حتى لو بالانتحار ... أن تستمد الآمان والطمأنينة من كونك سوف تموت. !"
كان الموت ومازال أكثر ما يؤثر فيّ ويستفز مشاعري. لا أذكر أنني دخلت بيت عزاء خلال حياتي كلها دون أن أبكي، سواءا عرفت الفقيد أم لا. يكفيني أن أذكر الموت حتى يذوب الخلاف وحتى أسامح وأعفو وأتناسى وأعيد حياكة حبال الوصل ولو على هون. لو يدرك الناس عبثية هذه الحياة بكل مافيها. إنها وبكل زينتها وقسوتها وحروبها وغناها وعداواتها ... ستؤول إلى فناء حتمي ومفجع.
لك أن تتخيل إذا ما فعل بي الموت حين غَيّب أحب الناس إليّ. بدايةً أنكرته، كأنه -وللمفارقة- ماكان سبباً في ردم الشقوق بيني وبين كثر. ثم لمته .. رميت ثقل حزني عليه، ظننته عدوي. أردت أن أتخفف منه، وكان هذا جنوناً. فهو هنا لا محالة. وأنا هنا وليس باليد حيلة. وسنلتقي يوماً وهذا مُقدر. فلم يكن لي وهذا الحال إلا أن أتصالح معه. فهمته، و أخيرا تمنيته ، أدركت أنه الطريق الوحيد للوصول وأنه سيبقى مابقيت الحياة. فصرت أنتظره.
قرأت مرة أن الناس يلومون ملك الموت ويسيئون فهمه، لكن كان حريٌ بهم أن يحبوه، اتضح أنه ملك نبيل ولطيفٌ جداً، يأتي ليرافقك إلى العالم الآخر كي لا تخطو إليه وحيداً.
إذا نحن الأحياء غرباء وأشقياء مرتين. مرة لأننا نعيش "هنا" في غربة وشقاء وهذا خارج حدود قدراتنا! ومرة لأننا نودعهم ونعود إلى "هنا" وحدنا !! . أما الأموات فقد عبروا برفقة ملائكة إلى الضفة الأخرى..إلى الوطن الأول، فانتهت غربتهم ووجدوا الراحة أخيراً، تلك التي نحلم بها هنا فوق الأرض...
أيعني هذا أننا حين ندرك ونعي معنى الحياة فإننا نتوق إلى الموت دون أن نشعر ؟
أنت رفيق روحي. ورفقة الروح أعظم إرتباط بين البشر. وأنت هنا تحت جلدي، كأنك تسافر في عروقي. أنت كثيف جداً في داخلي، أكثر كثافة من حزني الذي صار أوفى أصدقائي. أنت بدايتي وبين يديك ختامي.