مرةً كانَ أبي يتكلمُ، فقالَ: مُحمّد علي ألباني.
سألتُه مستظرِفًا: كان بيبيع لبَن؟
أبي: إي؟! يا خسارة التعليم اللي انتَ دخلته! انتَ خسارة فيك تشيل اسمي يابني!! معقولة انتَ تكون ابنِي؟ دا أنا بستغرَب!!
أتمنى أن تعرفي أنك محبوبة ووجودك مهم في هذه الحياة، وآمل أن تصبح الأمور أبسط وأكثر خفة بالنسبة لك، وأن يلفك السلام والراحة مثل وشاح دافئ، وأن تقضي أيامك بين أشخاص يستحقونك وفي المكان الذي تحلمين به، آمل أن تعيشي غير محتاجة لأطواق النجاة، أو لأحد يرمم بعثرة قلبك.")
گُلُ مناي أن تمر سنين حياتي بخفةٍ ولطف ، ألا أضرُ ولا أُضَر، يضع الله في حضوري قبولاً وألا أشعر بثقلي على أحد ،أن يمنح روحي من خفة الفراشات نصيباً وأبتسم وقلبي راضٍ لا يحمل للدنيا هماً ،،
لماذا استمررت في الكذب على نفسي طوال هذه المدة؟ لماذا صدقت هشاشة وجودك لأهرب من الواقع وأتشبث بالخيال؟ أقصد.. أتشبث بك؟ أريد أن أصعد من كل هذا إلى شهق الأفكار، ناطحات المعضلات. ولكن كيف والعلو يحتاج إلى خفة والإدراك يحتاج إلى إحساس؟ يوم يخامرني اهتزاز في نفسي الخالدة بمدٌّ داخلي، هناك، حيث الشيء و نقيضه، فأكتب شيء ليس في حوزتي، أسير معه على مسالك الحياة التي هي خليقة أضواء مخيلاتي المنعكسة على شظية من الواقع المكسور، وما أعتقده اليوم على أنه أصدق الأمور سيغدو خاطئاً في الغد، لقد أحسست كل هذا بحواسي السبع ألا وهيَ: إبصار سمع ذوق شم ولمس، واستشعار الحدث قبل وقوعه، والسابعة وهي الأعمق..تذهُّن الأشياء كما هي، وهذه الحاسة وُجدت فيَّ فقط، لا أبالغ ببساطة ما عندي على أيةِ حال، يا آواخر يناير البارد.. قد تراءت لي لِأَنَّ من بعيد أنها الجواب الوحيد لِلِمَاذَا.. ظلال متخفية في جوانب تلك التساؤلات المحاطة بهالة الأسرار. فما يدريني؟ لعل نتوءاتها بارزة على محياي، تظهر ولا تكاد تُرى، إنني لفي ضياع من هذه الإبهامات التي لن تصير يوماً إلا ما هي
للعقلِ فيما يبدو أساليب دفاعية كثيرة لحماية الإنسان من الإنهيار، اختبرتُ كثيرًا منها ولكن أشد ما لفت نظري هو طمس العقل لأجزاء من الذاكرة في محاولة لتجنب الألم الناتج عن التذكر، ومن ذلك أن عقلي حجب عني أحداث يناير للعام ألفين وأحد عشر وما تلاها من أحداث وسنين قريبة.
على مدار سنوات مررتُ على ميدان التحرير وما يحيطه من أماكن عشرات المرات ولم أشعر بشيء، لأنني لم أتذكر شيئًا، انمحت التفاصيل كافة، غريب والله! غريب ولكن جيد. انتهت الأحداث وانتهت الأحلام وتحولت إلى كوميكس على الفيسبوك، يسخر الناس بقسوة من المشاهد التي كانت تبكيني سعادة ونشوة، كمشهد الناس وهم يكنسون الشوارع لأنهم شعروا بامتلاكها والانتماء إليها أخيرًا. كل شيء تمت السخرية منه وكل هذه السخرية لم تجعلني حتى أبتسم. ثم فجأة فرغت الحياة.
ذلك لأنني كنتُ ابتعدتُ عن كل شيء، لا قراءة ولا كتابة ولا حتى كرة قدم لأنني بعد أحداث الأهلي والمصري في بورسعيد قرر عقلي أن يغلق على كرة القدم كما أغلق على كل شيء آخر، فأصبحت لا ألعبها ولا أشجعها ولم أكن وقتها أجرؤ على الاقتراب من أي مستطيل أخضر، وهكذا استمر عقلي في حجب كل شيء كان يمثل لي السعادة.
بدأت الحياة تعود تدريجيًا وعدت للعب كرة القدم وتشجيعها، ثم عدت للفيفا والفانتاسي ووضعت طاقتي الانتمائية في الكرة، بينما استمر عقلي في الردم على ما دون ذلك، حتى رجائي الحرية والحياة الكريمة.
ولكن هذه الأيام يبدو أن النظام الدفاعي أصابته بعض الأعطال، فسمح لبعض الومضات أن تلمع في الذاكرة المعتمة:
بابا أنا عايز انزل الميدان ومش عايز اعمل كده من وراك.
يا بني الدنيا شكلها خطر جدًا.
أنا عايز انزل
أنا مش عايز احرمكوا من حاجة زي كده يا بني، بس الدنيا خطر.
أخرج من الغرفة غاضبًا ومتوترًا. أقرر أن أغافلهم وأترك المنزل في الليل وليكن ما يكون، ولكنني فجأة أسمع صوت أبي ينادي باسمي، أذهب إلى غرفته فيتحاشى النظر إليّ:
أنا سايبلك فلوس على الكومودينو عشان مشوارك. اتكل على الله وخليك معايا على التليفون على طول.
ومضات من داخل الميدان، هتّيفة مهرة وهتافات مبدعة وشباب قوي. خفة دم وسخرية غير مسبوقة. الشتاء القارس. نومي على الأرض مرتجفًا لأنني استحيتُ أن أطلب من الشباب استضافتي في خيمة. موقعة الجمل. مصادفة أن عيد ميلادي كان أثناء الثورة. ابتسامي للمجاز في الميدان كأنني أولد من جديد كما تولد مصر من جديد، كل سنة واحنا طيبيين كلنا، كل سنة وانتي طيبة يا مصر! خطاب التنحي، بكائي الهيستيري وأنا أهتف، يحملني شخص لا أعرفه، وأهتف وأبكي إلى أن يذهب صوتي مصر يا أم ولادك أهم! ركضي في الميدان فاردًا يدي ّبطيارة أبو تريكة كما وعدت أصحابي.
"والله لتحصل بدال النكسة ميت نكسة"
أقولها لأصدقائي بعدها بسنين على القهوة فيسألني أحدهم: لو رجع بيك الزمن كنت هتنزل تاني؟ أقول، لو الثورة معملتش حاجة غير إنها أصلحتني فردًا هفضل ممتن لها طول عمري برضه ولو رجع بيا الزمن ألف مرة هنزل ألف مرة.
واقعة في حب الحياة، واقعة في حب جسمي، واقعة في حب الموسيقى وجمالها، حب حب حب يملأني كلي، حب مني لي، وحب مني لكل من هم حولي، حب يجعلني أكثر خفة ورقة وحنانًا وتسامحًا، كأني عدت لأصلي، هل هناك ما هو أجمل من أن تكون منبع للحب؟