ليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب ، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب ؛ فإن هذا لو كان كذلك لم يكن في الأمة متق ، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين ، ومن فعل ما يُكفِّر سيئاته دخل في المتقين . . .
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله : لم يأمر الله بالحزن ولا رسوله ، بل قد نهى عنه في مواضع ، وإن تعلق بأمر الدين ، كقوله تعالى : ﴿وَلا تَهِنوا وَلا تَحزَنوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ﴾ [آل عمران: ١٣٩] . وقوله : ﴿وَلا تَحزَن عَلَيهِم وَلا تَكُ في ضَيقٍ مِمّا يَمكُرونَ﴾ [النحل: ١٢٧] . وقوله : ﴿إِذ يَقولُ لِصاحِبِهِ لا تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ [التوبة: ٤٠] . وقوله : ﴿وَلا يَحزُنكَ قَولُهُم﴾ [يونس: ٦٥] ؛ وذلك لأنه لا يجلب منفعة ، ولا يدفع مضرة ، فلا فائدة فيه وما لا فائدة فيه ، لا يأمر الله به¹.
وكان النبى ﷺ يستعيذ بالله من الحزن ، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه ، قال : (كنت أسمع النبي ﷺ كثيرًا ، يقول : «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والبخل والجبن ، وضلع الدين وغلبة الرجال» .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - مُتحدِّثًا عن فتنة التتار -:
فينبغي للعقلاء أن يَعتبروا بسُنة الله، وأيامه في عباده، ودأب الأمَم وعاداتهم، لا سيَّما في مثل هذه الحادثة العظيمة، التي طبق الخافِقَين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررُها، وأطلَع فيها النفاقُ ناصيةَ رأسِه، وكشَّر فيها الكفرُ عن أنيابِه وأضراسِه، وكاد فيه عمودُ الكِتاب، أن يُجتَث ويُخترم، وحبل الإيمان أن ينقطعَ ويُصطَلم، وعُقر دار المؤمنين أن يَحِلَّ بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجَرة التتار ..!
وظنَّ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ؛ أن ما وعدَهم اللهُ ورسولُه إلا غُرورًا، وأن لن ينقلب حزبُ الله ورسولِه إلى أهليهم أبدًا، وزُين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظنَّ السوء وكانوا قومًا بُورًا !
ونزلت فتنةٌ تركَت الحليمَ فيها حيرانَ، وأنزلت الرجلَ الصاحيَ منزلة السكران، وتركَت الرجلَ اللبيب لكثرةالوسواس؛ ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكَرت فيها قلوبُ المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغلٌ؛ عن أن يغيث اللهفان !
وميَّز الله فيها أهلَ البصائر والإيقان، من الذين في قلوبهم مرضٌ أو نفاقٌ وضعفُ إيمان، ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفَّر بها عن آخرين أعمالَهم الخاطئة !
وحدَث من أنواع البلوى ما جعلها قيامةً مُختصرة من القيامة الكبرى .. فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقيٍّ وسعيد، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود، وفرَّ الرجلُ فيها من أخيه وأمّه وأبيه؛ إذ كان لكل امرئٍ منهم شأنٌ يغنيه ... ولم تنفع المنفعةُ الخالصة من الشكوى؛ إلا الإيمان والعمل الصالح والبرّ والتقوى !
وبُليت فيها السرائر، وظهرَت الخبايا التي كانت تُكنُّها الضمائر، وتبيَّن أن البَهرج من الأقوال والأعمال؛ يخون صاحبَه أحوجَ ما كان إليه في المآل، وذمَّ سادتَه وكبراءَه؛ من أطاعَهم فأضلُّوه السَّبيلا، كما حمِد ربَّه مَن صدَق في إيمانه؛ فاتخذ مع الرسول سبيلًا !
وبان صدقُ ما جاءت به الآثارُ النبوية من الإخبار بما يكون، وواطأتها قلوبُ الذين هم في هذه الأمة مُحدَّثون، كما تواطأت عليه المُبشِّرات، التي أُريها المؤمنون، وتبيَّن فيها الطائفةُ المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يَضرهم مَن خالفهم ولا مَن خذلهم، إلى يوم القيامة، حيث تحزَّبت الناسُ ثلاثة أحزاب:
حزبٌ مجتهدٌ في نصر الدّين، وآخر خاذلٌ له، وآخر خارجٌ عن شريعة الإسلام ..
وانقسم الناس ما بين؛ مأجورٍ ومَعذور، وآخر قد غرَّه بالله الغَرور !
وكان هذا الامتحانُ؛ تمييزًا من الله وتقسيمًا، " ليَجزي اللهُ الصادقين بصِدقِهم ويُعذَب المنافقين إن شاءَ أو يتوبَ عليهم إنَّ اللهَ كان غفورًا رحيمًا "...!
فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين؛ أن ابتلاهم بما ابتلاهم به؛ ليُمحِّص اللهُ الذين آمنوا، ويُنيبوا إلى ربِّهم، وليظهر مِن عدوهم ما ظهر منه مِن البغي والمَكر والنَّكث، والخروج عن شرائع الإسلام، فيقوم بهم ما يَستوجبون به النصر، وبعدوِهم ما يستوجبُ به الانتقام