Tumgik
shewhowonder · 5 years
Text
5 أبريل 2019
استيقظت علي صوت شيخ في المسجل، مدوي في الصوان المنصوب تحت شرفة حجرتي، بعد نوبة مضطربة أصابتني بصداع شديد وألم حاد في ظهري، قمت ابحث عن سجائري، وجدت أمي في صالة البيت يبدو عليها الخوف والانزعاج، لم أسألها عن شئ ولكن حاولت جذب أطراف الحديث معها، ولكنها كانت شاردة الفكر تنصت في غير اهتمام، كنت احدثها عن إعلان الوظيفة الأخير الذي تقدمت إليه، هل تناسبني أم لا؟ مشرف عمال؟ على أي حال أنا عاطل عن العمل أي شئ يناسبني. الآن بادرتها "ماذا علي أن أفعل؟". ردت في جد وضيق" قل يا رب فهمني وعلمني" ودفعت بمركبي بعيدًا. كأن المياه تتآمر معها ضدي، أخذ مركبى بالابتعاد عن البر بسرعة، صرخت في أمي دون تحديد أمر ما، في اضطراب ورعب، ولكنها أشارت إلي إشارة لم أفهم مغزاها واختفت عن ناظري. ابتعدت المركب عن البر تمامًا. لم يعد له أثر أمام أبعد ما أوتيت رؤيتي. حاولت أن أزِن قدميّ، أطاحت مجهوداتي بجسدي على الأرضية الخشبية، أفرغت ما في معدتي، كمية لا بأس منها من القئ عفن الرائحة، رغم أني لم أتناول أي طعام في الثلاثة أيام الماضية، اتسخ سروالي، أخذت أزيح ما أصابه بملو كفي من ماء البحر. شعرت فجأة بيد ثقيلة على كتفي، وقع نظري على رجل طويل البنية، رفيع للغاية، كسرت صرامة وجهه مسحة الحزن في عينيه، يبدو إليّ ربان المركب، ناولني عشب ما بعد أن فركه بكفه، يميل لونه إلي السواد أكثر منه إلي الإخضرار "امضغه جيدًا، يخفف حدة الدوار" ومضى. وضعت البودرة على طرف لساني تسربت مرارة بشعة إلى حلقي، لم أطقها، بصقته بعيدًا في المياه. تحسست جيبي إلى علبة سجائر وأشعلت واحدة. رحت أمشي اتفحص المركب وسط صخب أنفار كثيرة متشابهين، نسخة من فرد واحد ضعيف البنيان أسمر البشرة، ذو ملامح دقيقة وقصير القامة، بعضهم يجذف والآخر منشغل في مهام آخرى لم أفطنها. ست أو سبعة فقط متنوعون، توجهت إلي أحدهم شديد البدانة والصلع، كان منشغلا في صنع عقد في حبل سميك وطويل للغاية، جلست جواره، حوّل بصره ناحيتي وسألني " لماذا لا تعمل؟" "لا أعلم ماذا أفعل! أعتقد أني صعدت إلى هنا عن طريق الخطأ" رددت. "لا أحد يصعد هنا عن طريق الخطأ" أخبرني. ثم أضاف "أنا هنا مسؤول عن الأنفار لذا لا أعتقد أنك من مسؤلياتي". "لا أعتقد أني مسؤولية أحد. أريد فقط أن أعود إلي البر حيث تركتني أمي" رد في هزأ "آه، أنا أيضًا يتيم. لن نعود إلى البر إلا بعد أن تنتهي دورة كاملة" سألته " متى تنتهي هذه؟" ولكنه تجاهلني وراح يزعق في الأنفار. ازداد شعوري بالغضب والضياع. قمت ابحث عن ذلك الذي يبدو ربُان المركبة، على أمل أن أفهم منه ما يحدث. ذهبت إلي ما بعد وسط المركبة حيث كبائن الراحة، جذب انتباهي صرير الباب الخشبي المرتفع لاحداها وضوء المصباح المتسلل خارج الباب المتواري و المعلق على الحائط المثقوب، هيئ لي أن صنعتها رصاص بنادق. اقتربت، وصل إلى مسامعي صوت آهات متقطعة. طرقت الباب نصف المفتوح، جاءني الرد بعد بضع ثواني "ماذا تريد؟"، وددت الظن أنها دعوة للدخول فتقدمت داخل الحجرة، ووجدت رجل أسود يرتب ملابسه الرثة في سخط، انتبه إلي وبادرني في حنق "أثرت ازعاج امرأتين ودفعتها للمغادرة" واومأ برأسه ناحية النافذة الدائرية الصغيرة فوق السرير المغطى بالقش، ازدادت خبرتي وصداع رأسي ولكني لم استفسر عن أي شئ غير رُبان المركب " أين أجد رُبان المركب؟ المسؤول عن هذا الشئ؟". رد "لا أعلم، لم أراه منذ ثلاثة أيام" سألته" ما هذه المركبة؟ ماذا نفعل عليها؟ ومتي تنتهي الدورة الكاملة ونعود للبر؟" تغيرت ملامح الرجل ولانت قليلا، تحسس جيوبه وأخرج سيجارتين اشعلهما واعطاني واحدة، وأخبرني "حسنا، تلك اسئلة كثيرة، كل ما أعلمه أن هذه المركبة هي طوق نجاتي واخر فرصي. بعد أن هربت إلي السواحل خارج قريتي قبل أن اُبيع وينال مني الموت أو العبودية أيهما كان أقرب كما نال من أقراني. لذا صعودي هنا كان اجابتي التي ابحث عنها" تمتمت في يأس "يا الهي أنا أُجن" رد قائلا "حسنا، مما انت هارب؟" "لم اهرب من شئ، أنا دُفعت الى هنا"، عادت ملامحه إلى القسوة مرة أخرى " أنت كثير التذمر..يجب أن أقوم إلى عملي" رد وهو يجذب على ما يبدو شبكة صيد من داخل صندوق عند الحائط المصقول وهم إلى الخارج، وقف على الحافة وفرد قوامه ثم قفز بشبكته في المياه. دُرت كالمحموم أصيح وأسب في غير مسمع، في وسط بهرجة حياة البحر، هويت بثقلي على الأرض وتمددت، تطلعت الى السماء الكاملة الخالية من أية علامات والسيجارة بين اصبعي اسحب دخانها في جوفي، ووجدت لو يسحبنا البحربالمثل الى باطنه ويفتك بالمركب اللعينة، أغلقت عينيّ في انتظار.
فتحت عينيّ على ضوء الشمس النافذ من شقوق في سقف القبو وثرثرة الانفار، استجمعت قواي للنهوض، اتكأت علي إحدى براميل الرم. وصلت إلى جمع الانفار، مرر لي أحدهم طبق معدني احدث جلبة جعلت اذناي تصفر، فيه بعض ما يتناولون من طعام ثم ناولني كوب عصير برتقال بعد أن خلطه بالقليل من الرم. ابتلعت ما قُدم لي في حماس، ثم جاء مسؤول الأنفار البدين ومعه رجل آخر، ذو شعر طويل، ورجل اصطناعية تعرج بشكل طريف. نظر مسؤول الأنفار نحوي وبادرني في تهكم" اما زلت هنا؟ ظننتك ألقيت بنفسك في المياه؟ لكان هذا قربانا لا بأس به اتانا بصيد وافر، روح أخرى غاضبة يبتلعها الموج الهائج" "انظر اليه" قال مخاطبا الرجل ذو الرجل الاصطناعية "الا تجد له عمل ما؟" رد الاخير مخاطبني "حسنا، ماذا تجيد؟" توترت من بساطة السؤال "لا أعلم..اجيد تصليح الآلات" "حسنا، يمكنه المساعدة في اختراع الرُبان" رد موجها حديثه إلى مسؤول الأنفار، قفزت أمامه في لهفة وهتفت" نعم يمكنني ذلك. لكن ما هذا الاختراع" "سيخبرك هو بكل شئ" رد الاعرج، في ذلك الحين كان قد انتهى جمع الأنفار من طعامهم، يتحركون في جماعات آلية يحدثون صخبا عاليا بأوانيهم المعدنية، فقدت الرجلين وسط حشد النفر الواحد. جاهدت أشق طريقي بينهم الى السطح، بعد أن بلغناه وما أن هدأ التدافع بعد بضع دقائق، سمعت صوت نعيق قوي يملأ السماء، سرت في جسدي رعشة حثت دموعي على الانهمار، واصابت قلبي بفقد عجيب، تطلعت فوقي في جميع الاتجاهات حتى وجدت الرُبان متسلقا شراع المركب واقفا بقدم واحدة علي قمة عود الشراع وطالقا الأخرى في الهواء، وعلى إحدى كتفيه غراب. لم ادرى أيهما يصّدر هذا الأنين في الاجواء. جلست عند الجالي قرب ابتهال الغراب وصاحبه، شعرت بحنين مباغت لأمي، سقطت أشعة الشمس على جسدي وزادت من حرارة ذكرياتي وتصاعدت رائحتها الخبيثة وتبخرت. لم يكن ذنبي ولا ذنبها ذلك الشئ الذي تقاسمناه، حمله لم يترك أي فضاء لشئ اخر مشاركه. اقتلعتني منها بلا جذر، واسكتتني عن المطالبة بالوصول. اخبرتني أن هذا افضل لنا، لست سليلها، غير أصيل. اخرجني من شرودي مرور الربان أمامي بكتف خال، نحو دائرة الدولاب. وقف يحدق في الفراغ، رغم ذلك بدت حواسه يقظة، حتى اني بادرته بصوت خفيض "لتسمح لي، أريد أن أعلم عن بعض الاشياء" لم يحول نظره عما كان يتطلع إليه ولكنه رد في شئ من الاستعجال "اعرف.. الدورة الكاملة تنتهي حينما نوفر ما نحتاجه من الصيد للبقاء، حتى ذلك الحين يمكنك مرافقة الصيادون ولكني لا أحبذ خوض البحر في حالتك هذه، وهم ليسوا بحاجة إلى إلهاء، يجب أن يحصلوا المزيد قبل انتهاء الدورة" ثم أكمل " أنا احتاج الى الانتهاء من اختراعي في اقرب وقت، احتاج الى عون، يمكنك ذلك، صحيح؟" أجبته في همة "نعم يمكنني، ولكن ما هذا الاختراع؟ وما انت صانع به؟" تطلع اليّ بعينين نافذتين وكان على وشك قول شئ قبل أن تهتز المركبة كقشة في مهب الريح سقط قلبي في فزت لما رأيت ذلك الشئ العملاق يصعد من المياه إلى السماء ويسقط على ساطور السفينة في الخلف، صرخ الرُبان في اهتياج " من أجل هذا اصنعه ". قفز من فوق جسدي المترنح خوفا في خفة يصرخ كالمجاذيب في العملاق "اتيت مبكرا ايها اللعين" "اللعنة عليّ اين الصيادون؟" . اضطرب بعض الأنفار وفقدوا مجاذيفهم ولكنهم بق��ا اماكنهم، بدوا وكأنهم معتادين ذلك الحدث. بجوارهم مسؤولهم يأمر الرُبان في غضب بالتحرك بالمركب وهو يصوّب بندقيته في عشوائية ناحية العملاق، بينما كان الأخير واقفا علي الجزء المتبقي من الساطور يقطع بسكينه اطراف العملاق الملتفة حول الحافة. انتفضت لرؤية الرجل الاعرج، بالطبع اختفت وقع دقات رجله الاصطناعية وسط عاصفة الجنون هذه، ساعدني على النهوض "احتم في القبو" امرني. ووقف يدير الدفة في سخط. لم استطع الحراك ولم يناشدني ثانية، بدأت المركبة في التحرك وسط زلزال جامح من الأمواج المسعورة وضربات العملاق المدوية. جُن جنون الربان وانقض كحيوان بري علي الأعرج ودفعه بعيدا عن الدفة، قام الأخير في فوران ولكم الربان في وسط وجهه لكمة اسقطته مترنحا، وعدّل الأعرج الدفة مرة أخرى وسار بالمركبة مبتعدا. "لن أترك الصيادون ورائي وابتعد" صرخ الربان في الأعرج "أأنت مخبول؟ كنت ستودي بحياة أكثر من ثلاثة منذ قليل!". نهض الربان في غير توازن يمشي متعثرا حتى بلغ زورق النجاة. فك حباله وقذف بنفسه عليه. صاح فيّ الأعرج " لا تترك هذا المخبول وحده اذهب معه" أمره أبطل شلل حواسي وجريت وقذفت بنفسي معه، جذف راجعا الى حيث العملاق، وضربات قلبي أعنف من بارود البنادق، فجأة طفت ثلاث رؤوس فوق المياه السوداء اللامعة، هممنا بانتشالهم في هرع بعد أن ربطوا شباكهم المحملة بشتى ما في جوف البحر في مؤخرة الزورق. بدأت استجمع رباطة جأشي ونحن نبتعد حيث ظهر العملاق، ثوان قليلة غلّطت ظني، انقلب الزورق. دُفعنا جميعا في قلب الأمواج العاتية، وبدأت رحلة الاخشاب الطافية عندما ضرب العملاق، لحظات من الخدر، ونحن ندخل اسفل البحر، سمعنا غنى يسري في هون. كنا نرى وجوه بعضنا من خلال فقاعات المياه. سقط أحد الصيادون الثلاثة داميا على الشعاب المرجانية، حيث نمت اشياء جديدة، اشياء رائعة، لم اعرف بوجودها من قبل. شعرت بذراعي ثقيل للغاية، ينخلع من كتفي، تنفست لما وصلت السطح، ظل الربان يسحبني وبجواره الصيادين الاخرين. كنت مستسلما تماما لقسوة الليل، حتى لمحت على بضع خطوات إحدى الشباك مازالت مربوطة في قطعة من خشب الزورق المحطم، تحمست كثيرا، خلصت ذراعي من قبضة الربان وسبحت نحوها، كانت اطرافي خدرة، جاهدت حتي امسكتها، لم اسمع ما قاله الربان وقتها، بدا غاضبا للغاية. رفعت يدي بطرف الشبكة، سبح الصياد الاسود نحوي وجذبني أنا وهي وسبحنا ضد الموج باجساد منهكة، خلف الربان، نتبادل حمل الشبكة. صرنا على مرمى بصر الأنفار وباقي الطاقم، تدافعوا نحونا يحملونا الى فوق، لم ادر البقية وفقدت الوعي. لم استيقظ الا صباح اليوم التالي، وجدتني في كبينة الصياد الاسود، خرجت مسرعا، لتفقد أحوال المركب، وابحث عن الجميع. اول ما وجدت كان الأعرج "كيف حالك اليوم؟" سألني في اهتمام بالغ "بخير، اقله لم أفقد إحدى اطرافي" رددت ممازحا "كان السبب هذا الشئ اللعين، حسنا ايها الصبي، ذلك عادلا كفاية، لم اتوقع عودتك ليلة أمس علي آية حال" رد في ضحكة خبيثة. "ولا انا ايضا" قاطعنا مسؤول الانفار، واكمل " خسرنا أحد أفراد الطاقم بالامس، يود الربان إقامة مراسم إحتفاء بتضحية الصياد، وطلب مني اسألكما المشاركة". توجهنا إلى المقدمة حيث التف جميع من على المركب حول الربان ولشدة مفاجأتي كان الغراب يطوف حوله وهو يخاطب الجمع "لقد تخلينا عن الاشجار والرمال والجذور، من أجل الضباب والمياه، نحن فوق العشب والأرض والرمال. نسير بمحاذاة الشمس. لا نمتلك شئ ولا سلطة لأحد علينا. عندما تُرسل الرياح من الشمال البعيد الينا لتطيح بقوانا، نعتزم النيل منها. الرياح هي أجر جثثنا الضئيلة، تلغي بهم حدود الحقيقة، لا خسارة في موتنا. فقط نطمح في سبر المزيد من أغوار البحر قبل الذهاب. لن يوفقنا شئ". انهي خطبته وسط تهليل وصخب الحضور، لم أعي ما تحدث به ولكن بسبب ما كلماته أصابت قلبي. أومئ إليّ بعد أن أبتعد عنهم، تقدمت نحوه مستجيبا، بادرني في جمود "انتهت دورة كاملة، يمكنك النزول الآن وأشار بيده نحو البر" وتركني في حيرة شديدة. تلففت حولي بحثا عن إشارة أو ايماءة ولكن الكل منشغلون، هبطت في تردد وضياع وتقدمت نحو البر. وقع بصري علي امرأة مألوفة، اقتربت من مقعدها ودنوت ناحيتها. ناحية أمي. تغيرت ��ثيرا، كأنها صغرت عشرين عاما. تحمل طفلا صغيرا نائما في دعوى على ذراعيها. "أمي؟! أنه أنا.." نظرت الىّ بعينين صافيتين "أمك؟! كيف؟ لابد انك مخطئ.." ابتسمت لها كما لم ابتسم من قبل "نعم كنت مخطئ" طبعت قبلة علي جبينها وعدت. عدت الي البحر، قذفت بنفسي مجددا، اسبح في خفة نحو المركب، تحملني المياه حملا، وصلت، وفي حركة رشيقة قفزت إلى الداخل مجددا، انتبه الىّ الطاقم في غير مفاجأة، وكأن رجوعي مؤكدا.
16 notes · View notes
shewhowonder · 6 years
Text
تمثال العم كرم
عادة ً أذهب أنا وصاحبتى "سعاد" لزيارة العم "كرم" فى الإجازات الأسبوعية، فهو قريب لى من الدرجة الثانية يبلغ ستون عامًا، عمل كنحات طوال حياته . فى بيته الصغير نحت تماثيل لكبار وبهوات القرية، كان يحب أن يدعبس فى ذاكرته ويحكى لنا عما يجده بداخلها مكتمل لم يطوله الخرف والنسيان. كثيرًا ما يمدح يديه، يؤكد لنا أن الله انعم عليه بيد صادقة تشكل من الرخام الحقيقة المتدارية. لطالما كانت "سعاد" منصتة جيدة لحكايات العم أكثر منى، شخصية رومانسية حالمة. أول أمس أثناء إنشغالهما فى المطبخ لتحضير الشاى، كنت جالسة فى غرفة المنحت وحدى أدندن مع الراديو وأفر فى مجلات قديمة، ثم سمعت همسًا، ثبت يدى وتوقفت عن الفر. علت نبرة الهمس. نظرت حولى، أنا وحدى، نظرت من النافذة إلى الخارج لعل أحد الأولاد يختبأ فى حقل الذرة، لم اجد شيئًا. تجاهلت هواجسى ومسكت المجلة من جديد، سمعت الهمس مجددًا، هذه المرة محدد. همس ذكورى "فريدة.. أنا هنا..افتحى عينيك وانظرى إلي". صُعقت واستغربت بالفعل عيناى مفتوحتان على آخرهما، يلفان الغرفة ومازلت لا أجد مصدر الهمس. رحت اتحرك بين التماثيل فى إستهزاء مخلوط ببعض الريبة. وجدت ما لم يكن على البال أو الخاطر. تمثال من تماثيل العم "كرم" هو الذى أصدر الصوت. وقفت أمامه جامدةً غير قادرة على الحِراك، برودة  سَرت فى جسدى كله رغم حرارة العصرية. سألت التمثال إذا كان يتحدث وانا مستنكرة فعلى هذا، رد علىّ بالإيجاب. كان تمثال لوجه شاب فلاح. أنف دقيق عينان متسعتان ومسحوبتان، شفاه حادة رفيعة. أول الأمر رجانى ألا أهلع، أو أُحدث جلبة تاتى بالآخرين إلينا. قليل ما يعلم حينها، لم يكن لسانى يستجيب لإشارات مخى بالنجدة. أخبرنى منذ تم نحته والإنتهاء منه، وهو يستمع إلى أحاديثنا، وحاضرَا لكل نقاش، كوّن عنى ما جعله يتاكد إنى الشخص المناسب ليكشف له عن ماهيته. أخبرنى أن روحه سكنت الجبل الذى إستخرج منه قطعة الرخام المشكل بها، مات على هذا الجبل قص علىّ حياته السابقة. لم يكن له أبوين حسب ما اخبرته به السيدة التى تبنته، وجدته على جذع الشجرة الكبيرة جانب البحيرة المتطرفة آخر قريتنا. حيث كانت أمه بالتبنى تعمل كنفر ضمن مجموعة بنات فى حقل عنب وكانت بعد إنتهاء عملها تقصد البحيرة لتغتسل فيها. وفى يوم بعد إنتهائها من تلك العملية وجدته يتدلى من على جذع الشجرة كثمرة تفاح شديدة الحمار. اخذته وتولت رعايته. بينما أصغى كل حواسى منتبهة كحيوان برى. انتبهت إلى وقع أقدام عم "كرم" و "سعاد" مقتربة. همس لى أنه سينتظرنى غدًا. دخل العم و"سعاد" حاملان صينية الشاى وأطباق العسل والفطير. لاحظت "سعاد" تغير لون وجهى وشرودى المبين، سالتنى ما بى، أخبرتها إنى متوعكة قليلاً وأصابنى الصداع. مر علىّ الساعة التالية كأنها سنة. أفرك عينى المحملقة فى التمثال منتظرة أى حركة، ولكنه خالٍ من اى روح. أكان هذا حقيقى أم حلم. ولكنى لم اكن أبدًا بالشخص الخيالى حتى إنى لا أهوى القصص والحواديت. الشئ الوحيد الذى أحبه ومهتمة به هو الموسيقى، كنت مستمعة جيدة، والجميع يشهد لى بذلك. أحب جميع الآلات وأقرها، أحفظ كل تقسيمة ومقام قى كل قطعة فنية احبها. كالعادة عند الغروب غادرنا، قطعت الطريق شاردة، أهز رأسى ل"سعاد" بشكل آلى لما كانت تقول والذى لم ألق بالاً له.  حتى  وصلت إلى البيت، وطلبت من أمى أن تتركنى انام حتى الصباح ولا يزعجنى أحدًا فأنا متوعكة. نمت ساعات كثيرة أحلم بهذا الشئ الذى أفاق من ثباته وخرج عن جموده، وتذكرت أنه لم يخبرنى عن اسمه. هو يعلم عنى الكثير وأنا لا اعلم عنه شيئًا بعد. اتصلت ب"سعاد" طلبت منها أن نَمُر على العم "كرم" اليوم، كنت متوترة للغاية ومهزوزة أحاول أن أبدو طبيعية. استغربت، لم نكن معتادين على زيارته يومين متتاليين، ولكنها وافقت. لم يكن الباب الخارجى موصدًا، فإطمئننت لوجوده بالداخل، دلفنا إلى الداخل ننادى عليه، كان يقف أمام طاولة مطبخه. فوجئ لزيارتنا. اقتربت منه احيِّه، وأضع من يدى ما جلبت من طعام قبل أن أفوت على "سعاد"، حرصت على شراء ما يكفي ليضمن لى غيابهم فى المطبخ اطول وقت ممكن. حيانا بحماس كعادته، دخل بنا إلى الغرفة، رؤيتى تسبقنى نحو التمثال، جل��نا ونظر إلينا بإبتسامة متكلفة قليلًا. فهمت أنه لا إراديَا فى إنتظار تفسير عن سبب مجيئنا على غير عادتنا. بادرت بالثرثرة، عن أى كلام حقيقة. التعليم، الطقس، والملل الذى يتسلل إلى الإجازة الصيفية، خصوصًا وأنه بالكاد يوجد فى القرية أنشطة تصلح لتعبئة هذا الوقت. بتلقائية استلمت منى " سعاد" زمام الكلام، فكانت ثرثارة بطبعها، تبدى رأيها حول كل أمر التافه منها قبل الجلى. بعد مرور بعض الوقت قمت بتشغيل الراديو وتظارهت بالإستماع وأنا أدور حول التمثال، آملة أى شئ. توجه العم إلى المطبخ، اقتربت منى " سعاد" وسألتنى بحرج حول زيارتنا المفاجئة، مؤكدة ضرورة إبلاغه قبلها. أكدت لها أنه سعيد بنا فهو شخص وحيد، ولطيف منا أن نبدى إهتمامًا به. طلبت منها أن تذهب وتساعده بينما أرتب الغرفة. خرجت، فحولت عينىّ نحو التمثال فورًا، انحنيت فوقه وهمست "أنا هنا، أتسمعنى؟" ، جائنى الجواب بالإيجاب فى لحظتها. سارت رعشة خفيفة فى جسدى إذ أن يوم أمس كان حقيقة وحدث. لانت الشفاه الجامدة للحديث، عزمت وسألته ما اسمك، "جاد" رد. ناشدته أن يستأنف حديث الأمس عنه. حكى أنه ظهرت عليه بعض الكرامات بعد بلوغه، يشفى المعلول، يهب الدراويش والمحرومين سجناء الفقر المدقع. جدير بالذكر أنى لم أكذب حرف قاله، لم أتهمه بالدجل والزيف. إذا كانت روحه آوت الحجارة، وشقت طريقها نحو البعث، ترقبت فى سكون وجلد وقت صحوتها، إذًا فهى ذو أهلية بالمعجزات. سكت للحظة كأنه يحاول إستدعاء ذكرى، لاحق صمته نبرة موهنة مُغتمّة ينطق بها بما استدعى. ذكرى موته. انتشرت أخبار كراماته كالنار فى الهشيم، توافد عليه الناس من كل حدب ٍ وصوب يقصدون بركاته. لم يرد أحدًا خائبًا. شفاهم من سقامِهم، بسط دروبهم حتى بنوا له مقام زرعوا حوله الريحان والزعتر. لم يعد فى الحسبان النواميس تبددت العادات والتقاليد السرمدية .عبدوه، الرجال قبل النساء اللاتى عرضن عليه أنفسهن فى هوس وتوق، تنافسن عليه فى غليان، أصابتهن حمى الاهتياج. هدى من جسده وروحه لهم ولهن، زادت حاجات الناس، جوعهم، ظمأهم، شهوتهم. أعطاهم كل شئ ومازالوا يتوقون للمزيد من "كل شئ". كفروا بالحدود والحواف، يبتلعونه كالموج الهائم الزخم. قرر الهروب، أراد الخلاص من كراماته وبداية جديدة فى بلد آخر، ولكن فُضحت نواياه فى اللحظات الأخيرة. سمع أصواتهم من بعيد تتكالب من كل جانب تنادى باسمه، أصوات مفزعة آتية من الجحيم، جحيم كرماته. جرى نحو الجبال وهم فى أثره، رجال تحمل البنادق والفوؤس، ورجال تحمل الأموال والذهب، ونساء تهرول بأجسادهن عاريات، كلٌ بسلاحه. أى شئ مقابل بقاء "جاد". ولكنه أَبى. أصابته طلقة فى صدره فخرّ على الصخور، غطت دمائه الجبل كسته بحمرة ثائرة. من هول المشهد خافوا الإقتراب من الجبل، خافوا لعنة "جاد". لعنات حاكوها ظلمًا وبهتانًا، وتُرك جسده حتى ذاب وانصهر. عدت علىّ تلك اللحظات سنوات عجاف، حفرت دموعى أخاديد على وجنتىّ. عندما دخل العم "كرم" و "سعاد" إلى الغرفة جزعتهم ررؤيتى، ألقيت أسفًا مرتبك وتجاوزتهم إلى الخارج. جريت وسقطت أكثر من مرة، ونهضت أجرى أكثر وأبكى العجز والمرارة. وصلت منزلى، قطعت غرفتى ذهابًا وإيابًا، كنت قد أخذت قرارى. يجب أن أذهب إليه غدًا. يجب أن يتم هذا فى غياب العم "كرم".لا أملك تبرير منطقى لكل ما بدر منى. لم أنم ظلت جميع حواسى متقدة، خال لى أنى أشعر حتى بأقدام حشرات الحقل متناهية الصغر، إدراك العالم ثقيل علىّ. كنت أفكر لماذا قتلوه وهو المحب الواهب، أهذا خطأه أم خطأهم. أكان عقلانيًا عطاؤه ، أكان مردودًا طبيعيًا جشعهم. ذهنى يعصف "جاد! جاد! جاد!" حتى بزغ الفجر. تسللت إلى الخارج، إنطلقت مسرعة كغزال مطارد، أبطئ من طبعات أقدامى على الطريق كلما مررت بمجموعة من الفلاحين أو العاملين. وصلت لبيت العم تصنّتُ على حوائط البيت، اختلست النظر من النافذة الأمامية. كما اِتكلت على حدسى وجدت، غير موجود. الباب الخارجى موصد، توجهت إلى النافذة المطلة على حقل الذرة لحسن حظى كانت مفتوحة، تذكرت أن العم يعمل على قطعة جديدة فربما ترك النافذة لها تجف. أدركتها بعد محاولات من النط والقفز، جرحت معصمى، كشط بشدة ضد الحائط تركت دمائى علامة عليه. بلغت الغرفة مسرعة إلى "جاد". حرك عينيه نحوى فى تأثر، سألته بإنفعال جلى، ماذا على أن أفعل من أجلك؟ أى شئ. جاوبنى فى تلهف شديد، يريد شئ واحد فقط، فرصة آخرى للحياة. سألته كيف ذلك؟ "البحيرة" رد. البحيرة الواقعة على طرف القرية التى وجد على جذع الشجرة النامية على شطها.البحيرة غذّت الشجرة التى أثمرته. أرادنى أن آخذه إلى هناك وأن أضعه - التمثال – فيها، حينها فقط يبعث من جديد فى جسده البشرى. لم أفكر لحظة، ذهبت إلى غرفة نوم العم "كرم" سحبت غطاء السرير، لففته حول "جاد" ربطته بحبل نبشت عنه فى المطبخ، وأنزلته بحرص من النافذة، ووثبت إلى الخارج. حملته فى يدى كان ثقيلًا ولكن يداى لم تخور. كنت فى أوجّ عزيمتى ونشاطى. وقفت على الطريق أبحث عن وسيلة تحدف بنا نحو آخر القرية. وجدت مجموعة من الفلاحين متجهين نحو القرية المجاورة على عربتهم الكارو. أوقفتهم ثم إستاذنتهم فى الركوب معهم. كانت أعينهم تتفحص الملفوف بين يدىّ، ولكن لم يكن إهتمامًا كاقيًا للسؤال بِشأنه. بلغنا طرف القرية، نزلت وانتظرت حتى إبتعدوا. عرجت نحو الغرب مهرولة كالمجنونة قاصدة البحيرة حتى بلغتها. رأيت الشجرة لأول مرة عن قرب، عظيمة وشامخة. وقع أشعة الفجر رؤوم على مياه البحيرة جعلها تتلألأ بخفة. نزعت عن "جاد" الغطاء، تنفست عميقًا وخطوت بقدمىّ فى المياه، ابتسمت له، نظرت مطولاً لعينيه الحجريتين هذه قد تكون آخر مرة أراهما على هذه الشاكلة ودنوت به حتى غطته المياه. حركات المياه الخفيفة أخذته بعيدًا عنى قليلاً، غاصت به إلى العمق البسيط. تراجعت إلى الشط، فكرت إنى لا أنتمى إلى داخلها الآن. فقط هو والبحيرة. ثوان مرت ثم نهض من قلب البحيرة، يا إلهى كم كان جميلًا، أسمر وبديع، كاملاً إلى حد يجعل إستيعاب الكون بعظمته ممكنًا. ابتسم أرق إبتسامة رأتها عينى، بينما يشير إلى بالإقتراب، عينين بنيتين واسعتين ومسحوبتين، أنف دقيق، شفاه حادة، وشعر مجعد فاحم. نسخة حية من أول شكل عرفته به. تراقصت على جسده النحيف قطرات المياه اللامعة. أمسك بيدى، تفحص جلد معصمى المكشوط. مسح عليه بيده فشفاه، ثم رفعه إلى فمه قبّله فى حنان بالغ. لح علىّ أن أطلب منه شيئًا، فطلبت ضاحكة أن يهبنى صوت جميل. لطالما حلمت بإمتلاك حنجرة قوية ناعمة تشدو فى مرح وصخب. لمس بأطراف أصابعه رقبتى ونظر إلى عينىّ وابتسم وقال "غنِ" غنيت لساعات كل ما أعرفه من أغان وأناشيد، دندنت كل لحن أحفظه، له. كان جمهورى الوحيد. هو والشجرة والبحيرة. أعارنى إنتباهه لساعات، لم تتحول عيناه الصافيتان عنىّ للحظة.
4 notes · View notes
shewhowonder · 6 years
Text
نافذتى الكبيرة
أنقب عن الضوء بداخلى وخارجى، منزلى الضيق لا تُباركه الشمس كل صباح ولا ينعمُ برؤية القمر فى المساء، إذا شعرت بالحنق وأشتد شعورى بفجوة صدرى، أغمضُ عينىّ وأبحث فى خيالى عن نافذتى الكبيرة بطول حائط هادريان، وطاولتى الصغيرة، تُكفى فرداً، من خشب الماهجونى، تعزز الأشعة الذهبية رائحة الخشب المصقول تتناثر على سطحها بضع قطرات الندى حملها الهواء الى الداخل، أُشكل بأصابعى وجوه حيوانات صغيرة، هم أصقائى، أمنحهم أسماء، الأرنب الأبيض “رين” والثعلب ” كيبا” له لون برتقالى فاقع وعصفورى “ليلو” يتمتع بألوان عدة، ريشه الناعم يتغير عادة ليتماشى مع ما يحطُ عليه، الآن لونه أخضر فاتح لون فنجانى المملوء لنصفه بشاى الياسمين، يتصاعد البخار حتى تتشبع الغرفة بعبيره. لاتتوقف مطاردات “كيبا” و “رين” على المنضدة، يشى “ليلو” بأحداهما للآخر بصفيره الشجىّ. أكتب انا قصة قصيرة عن بطولة وجسارة الصياد “إيليا” قائد سفينة “ثيريا”ومغامراته الاستثنائية الدراماتيكية، بالكاد نجا بأعجوبة من واحدة هو وطاقمه منذ بضعة اسابيع فى بحر “سرقوس” أما هذه الايام فيجوب بـ”ثيريا” بحر “بارنتس” لملاحقة أسماط ” القد”. أدندن سيمفونية ويليام هيرشل الرابعة والعشرون، وأرفع عينىّ لما تبقى من ضوء، أملىء حدقتىّ قبل أن تغفا مجدداً.
4 notes · View notes