"يحدُث أن يغلبكَ النُعاس ولا تنام، أَن يغزوك الشَوق وتُهزَم، أن يُغرقك المد ولا تطلُب النَّجاة، أن يَزورك البُكاء ولا تفعَل، أن تلعنَ الجُغرافيا الممتدة، والمَسافات الدائِمة وبُعد الأماكن وقلةِ الحِيلة .. والكَثير من الهُراء الذي يحدُّث بلا رِضاك حَتى."
لديّ صديق عزيز جداً جداً ، أتتني أخبار مؤسفة بخصوص مرضه.. فقد انتشر💔
مالذي عليّ قوله؟ كلّ الأشياء التي أودّ قولها لا أشعُر بأنّها تكفِي.. كل الأشياء التي أودّ قولها قلتها له منذُ البدايَة واسيتهُ بها و أضحكته بها أنا في حالة ذهول ولا أعرف مالذي عليّ قوله! أشعر أنّ لا قولَ يُجدي وأنّ كلّ ما يَجب أن يُقال قدْ قِيل.
ثم أجِدُني مرة أخرى ، مستلقية على السرير كشجرة قررت فجأة أن تتكئ ، هكذا ، رامية انتمائها للثبات بأول حاوية قمامة تصلها أغصانها .. أحدق بالسقف بعيون مالحة ، تُكابر أن تُمطر كما أُكابر أنا أن أُظهر هشاشتي هته في وضح النهار : لا ألومني ، فمن ذا الذي قد يرغب بهتك سِتره في حضور الأبصار و الأنظار .. ثم أضحك مِني و ألعن تفكيري الذي إنساب مني في لحظة غِواية حينما تمتم لي أن : إظهار الحزن إذا فِعل من أفعال التعري : و يا للتعري : يُشيحون بنظرهم هروباً في النهار من منظر جسد يركض عارياً فقط لأنه قرر أن يتحرر من ثقل الثوب و الخجل ربما ، في حين أنهم يُصيِّرون لعيونهم أسنانا بدل الرموش إذ ما ظهر هذا الجسد متمايلا عندما ترقُد الشمس ! .. علينا اللعنة ما أشد نفاقنا... ثم تغلبني اللحظة : تشد شعري بشدة و تعيدني الى موضع جسدي و مرمى بصري بعيداً عن شرودي الخاطف : إلى السقف و حُزني المرمي إلى جانبي كثوب صوف في فصل الصيف ..
ماذا أفعل بي؟ أراقب اللغة تشيح بوجهها راثية حالي كما ترثي الأم صغيرها الذي فتك به الإعياء و نال منه المرض ، فلا تراه إلا هالكا ، فتُشيح ، كي لا يرى دمعها فيدرك قرب منيته ، وهو الذي يدركه أصلاً مذ بدايتهِ ..
لو أن هذا القلم ، و الحروف ، تصنع في الصدر ثقبا فيتسرب منه ما كتمت ، فيتسرب منه ما أمسكت عنه ، فأتسرب منه أنا ، لكنها اللاجدوى الثقيلة مجدداً ..
أُحدثني ، و تعبت مني ، لو أن على الأرض شخصاً يعرفني كاملة ، شخصاً يدرك حقيقتي ، يدرك روحي و قلبي و عقلي، فيجتمع هؤلاء على شتاتهم و تنافر طباعهم و اختلاف مشاربهم عنده كما يجتمع المختصمون عند حكم ، فيسمع و يعدل و يحكم .. لو أن الحياة منّت علي بواحد ، واحد لا أزيد من بعده طلبا ما حييت ُ ، واحداً ، يجيد _حينما تلفظني اللغة ، و يطردتي الفن ، و تنفض روحي من روحي يديها _ يجيد قراءتي ، تفسير المعاني و الكلمات التي أصابني عنها العمى ، يجيد إبصار النقطة العمياء مني ، فيبسُطها لي على راحة يده ، فأَقبَل يده و أُقبِّلها و أُقبِل عليها كما يُقبِل المغترب على ابن بلده إذ يلقاه على وزن لسانه القديم!
ألا يُدركني أحد؟ .. ثم أيُلامُ المرء إذا ما فاض حرصه على نفسه ، فوزع كله على مشارق الأرض و مغاربها ،حتى إذا ما إجتمعوا لا يضروه بشيء ؟ ، و ما حُجتي اليوم أمام نفسي إذ أضعت خيط رِتقها و إزداد حجم الشق بها و عجزت _ و أنا أنا_ أن أخيط هذا الجرح بها! و ماذا أخيط؟ جرجا بحجم السماء؟!
تُعيدني تنهيدة ثقيلة تحتاج رئة ثالثة إلى موضعي: محدقة بالسقف على سرير غُرفتي ..
هتِه أنا ،
ورد ،
تحاول للمرة التي لا تُعد ، أن تُعِد عُدتها للقاء يوم آخر ، توشك شمسه أن تطلع على عينين مُكابرتين ، تطلع عليهما الشمس و لا ينالان من الشمس غير حُرقة المُقل و لوعة الصدر و حرّ الأمل الذي يُدفئ تارة ، و يصهر تارة أخرىٰ
《 ليست ساعات السهر في آخر الأمر سوى حيّز لا ينتهي من رفض الفكر للفكر. إنّها الوعي و قد ضاق بالوعي. إنّها إعلان حرب. إنّها إنذار جهنّمي أخير يوجهه العقل لنفسه. قد يمنعنا المشي من أن نقلّب الأسئلة و نعيد تقليبها دون العثور على إجابة، أمّا الفراش فإنّه لوك و اجترار لما ليس له حلّ، إلى حدّ الدوار . 》
في غُربتي، تؤرقني وحدة أُمي، بالرغم من إيماني المطلق بقوتها وثقتي بثباتها، أعرف أبي جيداً، يغيب عنها، ودون أن تترقب عودته، ترقد في سريرها لوحدها، وتغفو لوحدها، وتصحو لوحدها. تقلقني عتمة أمي، وأعرف أن خلف القناع الحديدي أنثى عانت كثيراً، وحققت انتصارات صنعت منها امرأة لا يمكن أن تُقهر، لا شكّ أن أمي ملهمتي عندما ترهقني الحياة.
لماذا لا يقتنع الآخرون حين أقول "لا مشكلة" أو "عادي...بسيطة"؟
ألهذا الحد أبدو إنساناً قد تؤثر فيه خيبات أمل صغرى بعد كل ما حدث؟ أم أنني لا أدرك أو أنتبه إلى كون كل تلك الخيبات السابقة تركت أثراً واضحاً يراه الآخرون في كل هزة صغيرة تحدثها خيبة أمل صغيرة؟